فصل: المقصد الأول في بيان احتياج الكاتب إلى ذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقصد الثالث في كيفية تصرف الكاتب في مثل هذه المكاتبات والرسائل:

غير خاف على من تعاطى صناعة النثر والنظم أنه لا يستقل أحد باستخراج جميع المعاني بنفسه، ولا يستغني عن النظر في كلام من تقدمه: لاقتباس ما فيه من المعاني الرائقة، والألفاظ الفائقة، مع معرفة ترتيب أهل كل زمن واصطلاحهم، فينسج على منوالهم، أو يقترح طريقة تخالفهم؛ وتوارد الكتاب والشعراء على المعاني غير مجهول، فإن التوارد يقع في الشعر الذي هو مبني على أصل واحد من وزن وقافية، فإنه إذا وقف على المعنى وترتيب الكلام، عرف كيف ينسج الكلام؛ مثل أن يكتب في تهنئة بمولود: قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها، ورسخت عروقها، فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم، وذخيرة نفيسة لذوي الإقبال، فتولى الله نعمه عندك بالحراسة الوافية، والولاية الكافية. وقد بلغني الخبر بحدوث الولد المبارك، والفرع الطيب، الذي عمر أفنية السادة، وأضحك مطلع السعادة، فتباشرت بذلك وابتهجت به، فجعله الله براً تقياً، سعيداً حميداً، يتقيل سلفه، ويقتفي أثرهم، وأيمن به عددك، وكثر به ذريتك، وأوزعك الشكر عليه، وأجارك فيه من الثكل برحمته.
فيأخذ آخر المعنى، ويورده بألفاظ أخرى، فيقول: قد جعلك الله من شجرة زكت غصونها، وفرع شرفت منابته، فالنمو فيها نعمة كاملة السعادة، وغبطة شاملة السرور، فتولى فضله عليك بالحفاظ الراعي، والدفاع الكالي، وقد اتصل بي خبر السليل الرضي، والولد الصالح الذي حدد فوائد السيادة، وثبت أساس الرفعة، فاغتبطت به واستبشرت، جعله الله تعالى ولداً ميموناً، ونجلاً سعيداً، يسلك مناهج سلفه، ويحذو في المحاسن حذوهم، وزاد به في ثروتك، وأراك فيه غاية أملك، وسرك بوجوده، وأسعدك برؤيته.
فالمعنى والفصل واحد، والألفاظ مختلفة. وكذلك ما يجري هذا المجرى وما في معناه.
قلت: ولا ينهض بمثل ذلك إلا من رسخت في صنعة الكتابة قدمه، وامتزج بأجزاء الفصاحة والبلاغة لحمه ودمه؛ وهذا المنهج هو أحد أنواع الإعجاز في القرآن الكريم، فإن القصة الواحدة تتكرر فيه مراراً في سور متعددة، ترد في كل سورة بلفظ وتركيب غير الذي وردت به في الأخرى، مع استيفاء حد البلاغة ونهاية أمد الفصاحة؛ ولذلك قل من سلك هذا المنهج، أو ارتقى هذه الذروة، وقد أتى علي بن حمزة بن طلحة في كتابه الاقتداء بالأفضل من ذلك بالعجب العجاب، فإنه قد استحسن كلام الخطيب ابن نباتة الفارقي، والأمير قأبوس الخراساني، والوزير أبي القاسم المقري، والصاحب بن عباد، وأبي إسحاق الصابي، الذين هم رؤساء الكتابة، وأئمة الخطابة، من الرسائل والعهود البديعة، والخطب الموجزة الرائقة، فجرد معانيها من ألفاظها، واخترع لها ألفاظاً غير ألفاظها، مع زيادة تنميق، ومراعاة ترصيف، على أتم نظام، وأحسن التئام.
وهاتان نسختا كتابين الأولى منهما كتب هبا أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن بويه جواباً عن كتاب وصل إليه عن أخيه عضد الدولة يخبره بمولود ولد له. والثانية عارض بها علي بن حمزة المذكور أبا إسحاق الصابي في ذلك بألفاظ أخرى مع اتحاد المعنى.
فأما التي كتب بها أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة إلى عضد الدولة فهي:
وصل كتاب سيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه بالخبر السار للأولياء، الكابت للأعداء في الولد الحبيب الأثير، والسيد المقيل الخطير، الذي زاد الله به في عددنا، وجدد نعمه عندنا، وحقق في آمالنا والآمال لنا؛ فأخذ ذلك مني مأخذ الاغتباط ونزل عندي أعلى منازل الابتهاج، وسألت الله تعالى أن يختصه بالبقاء الطويل، والعمر المديد، وأن يجعل مواهبه لسيدي الأمير نأمية بنموه، ناشية بنشوه: ليكون كل يوم من أيامه ممداً له من فضله عادة، وواعداً له من غده بزيادة، ومحدثاً لديه منحة تتضاعف إلى ما سبق من أمثالها، ومجدداً له عازمة تتلو ما سلف من أشكالها؛ وأن يريه إياه غرة في مكانه؛ ويهب له بعد الأكابر النجباء السابقين، أتراباً من الإخوة لاحقين، تابع منهم من مباراة المتبوع، وشافع من مجاراة المشفوع، في فائدة تقدم بمقدمه، وعائدة ترد بمورده، ويحرس هذه السعادة من خلل يعترض اتصالها، أو فترة يخترم زمانها، أو نائبة تشوبها، أو تنغصها، أو رزية تثلمها، أو تنقصها. إلا أنها الأمد الأبعد والعمر الأطول؛ ثم تفضي به غضارة هذه الدار الدنيا، إلى قرارة الدار الأخرى، مبوأ أوفى مراتبها، مبلغاً أقصى مبالغها، حالاً أرفع درجاتها، مختصاً بأنعمها، مبتهجاً بها، مستثمراً ما قدمه لصالح سعيه، ومستوفياً ما أفاءه عليه متجره الرابح، وآثاره البادية لإنفاقه في أيام نظري التي استشعرت نوراً من سنائه، وآنست جمالاً من بهائه، وثابت مصالحها، ببركته، وتوافت خيراتها بيمنه؛ واعتقدت أن السعادات طالعة علي بمطلعه، وأسبابها ناجمة إلي بمنجمه؛ فلو استطعت أن أكون مكان كتابي هذا مشافهاً بالتهنئة لسيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه ومقبلاً لبساطه، لكنت أولى عبيده بالمسارعة إلى بابه، وأحقهم بالمبادرة إلى فنائه: لأنني معوق عن تلك الخدمة بخدمة أنافيها من قبله، ومقيم بهذه الحضرة، إقامة المتصرفين تحت أمره، وقد وفيت نعمة الله تعالى، الواهب منه أيده الله تعالى ما يقر عين الولي، ويقذي عين العدو ويطرفها، حقها من الشكر الممتري للمقام والمزيد، بدوام العز والتأييد، وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك مقبولاً عنه، ونافعاً له، وعائداً عليه وعلينا بطول العمر وبباهي النشو والنماء، وأن يعرف سيدي الأمير عضد الدولة أيده الله بركة مولده، ويمن مورده، ويبقيه حتى يراه، والأمراء أفضل ما رشحته له أمانيه، وأعلى ما انبسطت آماله فيه، بقدرته. وأنا أتوقع الكتاب بما يقرر عليه اسم الأمير السيد وكنيته، أعلاها الله تعالى لأستأنف إقامة الرسم في مكاتبته، وتأدية الفرض في خدمته؛ وسيدي عضد الدولة، أطال الله بقاءه، أعلى عيناً فيما يراه بمطالعتي بذلك وبكل ما يوليه الله من مستأنف نعمه، ويجدده له في حادث مواهبه له، لآخذ بحظي منهما، فأضرب بسهمي فيهما، وتصريفي بين أمره ونهيه، وتشريفي بعوارض خدمته، إن شاء الله تعالى.
وأما التي عارضها بها علي بن حمزة بن طلحة فهي:
وصلني كتاب سيدي الأمير عضد الدولة، أطال الله بقاءه، بالبشرى المبتسمة عن ناجذ السعد الآن ف، والنعمى المنتسمة عن صبا المجد المتضاعف، التي أشرقت مطالع الإقبال عن محياها، وتضوعت نفحات درك الآمال عن رياها، وصدقت من الأولياء ظنونهم المرتقبة، وانتخبت من الأعداء عيونهم المرتعبة، بالولد النجيب الخطير، الأمير الحبيب الظهير، المجيد المعمر، المقيل المؤمر، الذي كثر الله به عددنا معشر أهليه، وعددنا بما نرتقبه منه ونراعيه، وهو تكرمة تحقق ظنوناً بماله نرتجيه، وما نؤمله من السعادة المقبلة فيه؛ فاستفزتني غبطة استحوذت على جوامع لبي، وتملكتني بهجة ثوت في مراجع قلبي، وطفقت مبتهلاً، وتضرعت متوسلاً، إلى ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، أن يجمع له بين العمر المديد، والجد السعيد كفاء ما قرن له بين المجد العتيد، والملك الوطيد، وأن يجعل تحيات أياديه لدى سيدي الأمير متضاعفة الأعداد، مترادفة الأمداد، مبشرة بنجباء الأولاد، يربى آنفها على السالف بسعده، ويلهي عن تالدها الطارف بعلو مجده، وأن يريه إياه على مفرق دولته، وغرة تشرق في جبهة ذريته، وناهضاً بأعباء مملكته، وقائماً بنصرة دعوته، حتى يرى أولاد أولاده جدوداً، مظفراً سعيداً، وأن يتبعه أتراباً من الإخوة النجباء، الأماجد السعداء، متجارين في حلبات علو الهمم، متبارين في مزيات إيلاء النعم؛ ليزايد ازدحام وفود السعادة في عتبات بابه، ويترافد اقتحام جنود الإقبال رحيب جنابه؛ ويحرس لديه ما خوله من مواهبه وأياديه، ويحفظ عليه ما به فضله من مناقبه ومعاليه، ويقيه من كيد عاند إذا عند، ويحميه من شر حاسد إذا حسد، وأن يؤتيه عائدتي العاجلة والعقبى، ويحظيه بسعادتي الآخرة والأولى، وأن يجعل سعيه في مصالح عباده مشكوراً، ونظره في مناحج بلاده مبروراً، وأن يغادر متاجر بره وتقواه رابحه، كما جعل خواطر سره، ونجواه صالحه؛ فرياض الأيام بعدله نواضر، ونواظر الأنام إلى فضله نواظر، ومصالحهم بيمينه وبركته موافيه، وبراعتهم بهمته وسعادته مواتيه؛ وإني لأعتقد أن مقيلي في أفياء السعادة، ونيلي كل مأمول وإرادة، وتوفيقي فيما أوفق فيه، بما أعتمده وآتيه، جدول من تيار فضله وسعادته، منوط العرى، بسمو همته؛ وأود أن أكون عوضاً عن كتابي هذا إليه، وخطابي الوارد آنفاً عليه، لأسعد بلألاء غرته، وأحظى بالأشرف من خدمته؛ أدام الله أيام دولته: لأني أجدر عبيده بالمهاجرة إلى بابه، وأولى خدمه بالمبادرة إلى جنابه؛ ولولا تحملي أعباء خدمته التي طوقنيها، وكوني نائبه لدى هذه الحضرة فيها، ثاوياً بأوامره ونواهيه في مغانيها، لما شق غباري من أم ذراه، ولا اتبع آثاري مسرع رام لقياه. ولقد قمت بالواجب علي للنعمة. أيده الله، المنزلة إلي، والموهبة بمقدمه، كلأه الله، المكملة لدي، التي أضحت بها نواجذ المخلص ضاحكة مستبشرة، وأمست بسببها وجوه الكاشحين عابسة مستبسرة: من وافر شكر يمتري المزيد، وعتق الإماء والعبيد، والصدقة الدارة على التأبيد؛ وأنا أرغب إلى الله تعالى رغبة متوسل إليه، آمل بما لديه، أن يجعل بركة كل خير درت به أخلافه، وكرت لأجله أحلافه، عائدة عليه، وميامنه ثائبة إليه، مؤذنة بتعميره ملكاً حلاحلاً، لا يلقى مؤملوه ليم فضله ساحلاً، وأن يمد لسيدي عضد الدولة في البقاء، ويمتعه به وبسابقيه من إخوته الأمراء، ويريه فيهم وفيه، قصوى ما تسمو إليه هممه وأمانيه. وإني لمتوكف لما يصلني من كتاب ينبئ عن اسمه الكريم وكنيته، لأعتمد ما أستوجبه في خدمته ومكاتبته؛ وسيدي عضد الدولة أدام الله علاه، ولي ما يستصوبه ويراه: من الأمر بمكاتبتي بذلك وبمتجددات النعم، وأوانف المواهب الغالية القيم، لآخذ وافر سهمي من السرور، وجزيل قسمي من الجذل والحبور، وتصريفي بين أمره الممتثل المطاع، ونهيه المقابل بالإتباع، إن شاء الله تعالى.

.النوع العاشر: الاستكثار من حفظ الأشعار الرائقة:

خصوصاً أشعار العرب وما توفرت دواعي العلماء بها على اختياره: كالحماسة، والمفضليات، والأصمعيات، وديوان هذيل، وما أشبه ذلك؛ وفهم معانيها واستكشاف غوامضها، والتوفر على مطالعة شروحها؛ ويلتحق بذلك شعر المولدين من العب، وهم الذين كانوا في أول الإسلام. كجرير والفرزدق، والأخطل وغيرهم؛ وكذلك حفظ جانب جيد من شعر المفلقين من المحدثين: كأبي تمام، ومسلم بن الوليد، والبحتري، وابن الرومي، والمتنبي ونحوهم.
وفيه مقصدان:

.المقصد الأول في بيان احتياج الكاتب إلى ذلك:

أما شعر العرب والمولدين، فلما في ذلك من غزارة المواد، وصحة الاستشهاد، وكثرة النقل، وصقل مرآة العقل، وانتزاع الأمثال، والاحتذاء في اختراع المعاني على أصح مثال، والاطلاع على أصول اللغة وشواهدها، والاضطلاع من نوادر العربية وشواردها. وقد كان الصدر الأول يعتنون بذلك غاية الاعتناء: قال محمد بن سلام عن بعض مشايخه كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر. وذكر صاحب الريحان والريعان عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان أبو بكر وعمر وعلي يجيدون الشعر، وعلي أشعر الثلاثة. قال: وكان عمر بن الخطاب يقول أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدمها بين يدي حاجته ويستعطف بها الكريم، ويستنزل بها اللئيم. وقد ذكر عن الشافعي رضي الله عنه أو غيره من بعض الأئمة الأربعة: أنه كان يحفظ ديوان هذيل؛ وأما قول الشافعي رضي الله عنه:
ولولا الشعر بالعلماء يزري ** لكنت اليوم أشعر من لبيد

فإنه يريد من صرف همته إلى الشعر، بحيث صار شأنه ودينه، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: «لأن يملأ أحدكم جوفه قيحاً خير من أن يملأه شعراً» أي أراد صرف همته إليه حتى يملأ جوفه منه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكمة». وكان عمر رضي الله عنه يسمع البيت يعجبه فيكرره مرات كما ذكره الجاحظ وغيره. وقد ذكر أبو البركات بن الأنباري في كتاب طبقات الأدباء في ترجمة أبي جعفر أحمد بن إسحاق البهلول بن حسان الأنباري: أنه كان فقيهاً، عالماً، واسع الأدب وتقلد القضاء لعدة من الخلفاء. ثم حكى عن ولده أبي طالب أنه قال كنت مع والدي في جنازة بعض أهل بغداد من وجوه الناس والى جانبه أبو جعفر الطبري، فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة ويسليه، وينشده أشعاراً، ويروي له أخباراً، فداخله الطبري في ذلك، ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة، وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم استحسنها الحاضرون وأعجبوا بها، وتعالى النهار وافترقنا، فقال لي أبي يا بني من هذا الشيخ الذي داخلنا في المذاكرة؟ فقلت: يا سيدي كأنك لم تعرفه، فقال لا، فقلت: هذا أبو جعفر الطبري، فقال إنا لله! ما أحسنت عشرتي معه؛ فقلت كيف يا سيدي؟ قال: ألا نبهتني في الحال، فكنت أذاكره بغير تلك المذاكرة؟ هذا رجل مشهور بالحفظ والاتساع في صنوف العلوم، ما ذاكرته بحسبها؛ ومضت على ذلك مدة فحضرنا في حق آخر وجلسنا، وإذا بالطبري قد دخل إلى الحق. فقلت أيها القاضي هذا أبو جعفر الطبري قد جاء مقبلاً، فأومأ إليه بالجلوس عنده، فعدل إليه وجلس إلى جانبه، وأخذ يجاريه، فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتاً، قال أبي: هاتها يا أبا جعفر! إلى آخرها، فيتلعثم الطبري فينشدها أبي إلى آخرها، وكلما ذكر شيئاً من السير، قال أبي هذا كان في قصة فلان، ويوم بني فلان، مر يا أبا جعفر فيه فربما مر فيه، وربما تلعثم، فيمر أبي في جميعه. ثم قمنا، فقال لي أبي: الآن شفيت صدري: وأما أشعار المحدثين، فللطف مأخذهم، ودوران الصناعة في كلامهم، ودقة توليد المعاني في أشعارهم، وقرب أسلوبهم من أسلوب الخطابة، والكتابة، وخصوصاً المتنبي، الذي كأنه ينطق عن ألسنة الناس في محاوراتهم، وكثر الاستشهاد بشعره حتى قل من يجهله؛ فإذا أكثر المترشح للكتابة من حفظ الأشعار وتدبر معانيها، ساقه الكلام إلى إبراز ذخيرة ما في حفظه منها، فاستعملها في محلها، ووضعها في أماكنها، على حسب ما يقتضيه الحال في إيرادها واقتباس معانيها.

.المقصد الثاني في كيفية استعمال الشعر في صناعة الكتابة:

اعلم أن للكاتب في استعمال الشعر في كتابته ثلاث حالات:
الحالة الأولى الاستشهاد وهو أن يورد البيت من الشعر، أو البيتين، أو أكثر في خلال الكلام المنثور مطابقاً لمعنى ما تقدم من النثر؛ ولا يشترط فيه أن ينبه عليه بقال ونحوه، كما يشترط في الاستشهاد بآيات القرآن والأحاديث النبوية، فإن الشعر يتميز بوزنه وصيغته عن غيره من أنواع الكلام، فلا يحتاج إلى التنبيه عليه. وأكثر ما يكون ذلك في المكاتبات الإخوانيات: مثل ما كتب به القاضي الفاضل إلى بعض إخوانه يستوحش منه، ويتشوق إليه:
فيا رب إن البين أضحت صروفه ** علي وما لي من معين فكن معي

على قرب عذالي وبعد أحبتي ** وأمواه أجفاني ونيران أضلعي!

هذه تحية القلب المعذب، وسريرة الصبر المذبذب، وظلامة عزم السلو المكذب، أصدرتها إلى المجلس وقد وقد في الحشا نارها، الزفير أوارها، والدموع شرارها، والشوق أثارها، وفي الفؤاد ثأرها:
لو زارني منكم خيال هاجر ** لهدته في ظلمائه أنوارها

أسفاً على أيام الاجتماع التي كانت مواسم السرور والأسرار، ومباسم الثغور والأوطار، وتذكراً لأوقات عذب مذاقها، وامتد بالأنس رواقها، وزوجت بكرها، ودوعب ذكرها:
والله ما نسيت نفسي حلاوتها! ** فكيف أذكر أني اليوم أذكرها؟

ومذ فارقت الجناب، لا زال جنا جنابه نضيراً، وسنا سنائه مستطيراً، وملكه في الخافقين خافق الأعلام، وعزه على الجديدين جديد الأيام، لم أقف منه على كتاب تخلف سطوره ما غسل الدمع من سواد ناظري، ويقدم ببياض منظومه ومنثوره ما وزعه البين من سويداء خاطري:
ولم يبق في الأحشاء إلا صبابة ** من الصبر تجري في الدموع البوادر

وأسأله المناب، بشريف الجناب، وأداء فرض، تقبيل الأرض، حيث تلتقي وفود الدنيا والآخرة، وتعمر البيوت العامرة المنن الغامرة، وفضل الظل غير منسوخ بهجيره، ويبشر المجد بشخص لا تسمح الدنيا بنظيره:
تظاهر في الدنيا بأشرف ظاهر ** فلم نر أنقى منه غير ضميه!

كفاني فخراً أن أسمى بعبده ** وحسبي هدياً أن أسير بنوره!

فأي أمير ليس يشرف قدره ** إذا ما دعاه صادقاً بأميره؟

وإنني في السؤال بكتبه أن يوصلها ليوصل بها لدي تهاني تملأ يدي، ويودع بها عندي مسرة تقدح في الشكر زندي:
عهدتك ذا عهد هو الورد نضرة ** وما هو مثل الورد في قصر العهد

وأنا أترقب كتابته ارتقاب الهلال: لتفرط عين عن الكرى صائمة، وترد نفس عن موارد الماء حائمة.
بل ربما كان كل المكاتبة أو جلها شعراً، وقد يكون صدر المكاتبة شعراً وذيلها نثراً، وبالعكس. وقد يكون طرفاها نثراً وأوسطها شعراً، وعكس ذلك بحسب ما يقتضيه الترتيب، ويسوق إليه التركيب؛ وربما اكتفي بالبيت الواحد من الشعر في الدلالة على المقصد وبلوغ الغرض في المكاتبة: كما كتب بعض ملوك الغرب إلى من كرر كتبه ورسله إليه بقول المتنبي:
ولا كتب إلا المشرفية عنده ** ولا رسل إلا الخميس العرمرم

إلى غير ذلك من المكاتبات المتضمنة للأشعار. أما مكاتبات الملوك الآن فقل أن تستعمل فيها الأشعار، أو يستشهد فيها بالمنظوم والمنثور، وقد تجيء التلقيحات بأبيات الشعر في غير المكاتبات من الرسائل الموضوعة لرياضة الذهن، وتنقيح الفكر كالرسائل الموضوعة في صيد ملك أو فتح بلد أو نحو ذلك؛ وقد أودعت المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء جملة من الأبيات الشعرية، أوردتها مورد الاستشهاد على ما يقتضيه المقام، ويسوق إليه سياق الكلام، على ما سلف ذكره عند الكلام على فضل الكتابة فيما تقدم. وعند مطالعة كلامهم، والوقوف على رسائلهم، ترى من أصناف الاستشهادات ما يروقك نظره، ويطربك سمعه.
الحالة الثانية التضمين وهو أن يضمن البيت الكامل من الشعر أو نصف البيت لبعض القرينة. أما تضمين البيت الكامل من الشعر أو نصف البيت لبعض القرينة فمثل ما كتب به القاضي الفاضل: وصل من الحضرة:
كتاب به ماء الحياة ونقعه ال ** حيا فكأني إذ ظفرت به الخضر

فوقفت عنده منه على:
عقود هي الدر الذي أنت بحره ** وذلك ما لا يدعي مثله البحر

ورتعت منه في:
رياض يد تجني وعين وخاطر ** تسابق فيها النور والزهر والثمر

وكرعت منه في حياض:
تسر مجانبها إذا ما جنى الظما ** وتروي مجاريها إذا بخل القطر

وما زلت منه أنشده:
كأني سار في سريرة ليلة ** فلما بدا كبرت إذ طلع الفجر

ووافي على ما كنت أعهد:
فخلت بأن العين من سحب كفه ** فمن ذا ومن ذا فيه ينتثر الدر

واسترجع فائت الدماء من مورده:
وما كان عندي بعد ذنب فراقه ** بأني أرى يوماً به بعد الدهر

ونفس عن النفس بأبيض أثماده وعين العين بأسود إثمده:
به لهما سبح طويل فهذه ** على خاطر برد وفي خطر بدر

وجدد إليه أشواقاً جديدها:
يمر به ثوب الجديدين دائماً ** فيبلى ولا يبلى وإن بلي الدهر

وذكر أياماً لا يزال يستعيدها:
وهيهات أن يأتي من الأمر فائت ** فدع عنك هذا الأمر قد قضي الأمر

وأما تضمين نصف البيت فمثل قول القاضي الفاضل:
وصل كتاب مولاي بعدما ** أجاب المنادي للصلاة فأعتما

فلما استقر لدي....... ** تجلى الذي م جانب البدر أظلما

فقرأته................ ** بعين إذا استمطرتها أمطرت دما

وساءلته................ ** فساءلت مصروفاً عن النطق أعجما

ولم يرد جواباً............. ** وماذا عليه لو أجاب المتيما؟

ووردته قراءة................. ** فعوجلت دون الحلم أن أتحلما

وحفظته................... ** كما يحفظ الحر الحديث المكتما

وكررته................ ** فمن حيث ما واجهته قد تبسما

وقبلته................ ** فقبلت ذراً في العقود منظما

وقمت له............... ** فكنت بمفروض المحبة قيما

وأخلصت لكاتبه.......... ** وليس على حكم الحوادث محكما

ولم أصدقه!............. ** ولكنه قد خالط اللحم والدما

وأرخت وصوله................ ** فكان لأيدي الوسائم موسما

وشفيت به غليل.......... ** فؤاد أمنيه وقد بلغ الظما

وداويت عليل................ ** حشاً ضر ما فيه من النار ضرما

فأما تلك الأيام التي............. ** حماها على اللوم المقام على الجما

والليالي العذاب التي............. ** ملأت بحور الليل بيضاً وأنجما

وأرسلت الزفرة............. ** فلو صافحت رضوى لرض وهدما

وأسلبت العبرة............. ** كما أنشأ الأفق السحاب المديما

وخطبت السلوة............. ** فأسأل معدوماً وآمل معدما

فأما الشكر فإنما................ ** أفض به مسكاً عليه مختما

وأقوم منه بفرض............. ** أراني به دون البرية أقوما

وأوفي واجب فرض............. ** وكيف توفي الأرض فرضاً من السما

وربما ركبت القرينة الكاملة على البيت أو نصف البيت كما كتب به القاضي الفاضل أيضاً: ورد كتاب الحضرة بعد أن عددت:
الليالي ليلة بعد ليلة لطلوع صديعه ** وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا

وبعد أن انتظرت القيظ والشتاء:
لفصل ربيعه............. ** فما للنوى ترمي بليلى المراميا؟

واستروحت إلى نسيم سحره.... ** إذا الصيف ألقى في الديار المراسيا

ومددت يدي لاقتطاف ثمره.... ** فلله ما أحلى وأحمى المجانيا!

ووقفت على شكواه من زمانه.... ** فبت لشكواه من الدهر شاكيا

وعجبت لعمى اللحظ عن مكانه ** وقد جمع الرحمن فيه المعانيا

وتوقعت له دولة يعلو بها الفضل.... ** إذا هز من تلك اليراع عواليا

ورتبة يرتقي صهوتها بحكم العدل.... ** فرب مراق يعتددن مهاويا

وإلى الله أرغب في إطلاع سعوده.... ** زواهر في أفق العلاء زواهيا

وفي إنهاض عثرات جدوده....... ** فقد عثرت بعد النهوض العواليا

وربما ركب نصف البيت على نصف القرينة، كما ذكرت في المفاخرة بين السيف والقلم في الكلام على لسان السيف في مخاطبته للقلم، وهو: وأنت وإن ذكرت في التنزيل، وتمسكت من الامتنان بك في قوله: {علم بالقلم} بشهة التفضيل، فقد حرم الله تعالى تعلم خطك على رسوله، وحرمك من مس أنامله الشريفة ما يؤسى على فوته ويسر بحصوله؛ لكني قد نلت من هذه الرتبة أسنى المقاصد، وشهدت معه من الوقائع ما لم تشاهد، وحلاني من كفه شرفاً لا يزول حليه أبداً، وقمت بنصره في كل معترك. فسل جنيناً وسل بدراً وسل أحداً.
فركبت نصف بيت البردة على نصف قرينة. وما ذكرته في الرسالة التي كتبتها للمقر الفتحي صاحب ديوان الغناء الشريف بالأبواب السلطانية بالديار المصرية. وهو: قد لبس شرفاً لا تطمع الأيام في خلعه، ولا يتطلع الزمان إلى نزعه، وانتهى إليه المجد فوقف، وعرف لكرم مكانه فانحاز إليه وعطف، وحلت الرياسة بغنائه فاستغنت به عن السوى، وأناخت السيادة بفنائه فألقت عصاها واستقر بها النوى.
وقد يضمن الكاتب بعض القرينة نصف بيت، ثم يستطرد فيذكر أبياتاً كاملة الأجزاء على نمط أنصاف الأبيات التي يوردها، كما فعل الشيخ ضياء الدين أحمد بن عمر بن يوسف القرطبي في رسالته للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد تغمدهما الله برحمته في قوله:
وينهى ورود عذرائه التي ** لها الشمس خدن والنجوم ولائد

وحسنائه التي.................. ** لها الدر لفظ والدراري قلائد

ومسرفته التي.................. ** له من براهين البيان شواهد

وكريمته التي.................. ** لها الفضل ورد والمعالي موارد

وآيتها الكبرى التي دل فضلها ** على أن من لم يشهد الفضل جاحد

وأنك سيف سله الله للهدى ** وليس لسيف سله الله غامد

وقد يخالف بين قوافي أنصاف الأبيات التي يمزجها ببعض القرائن كما يخالف بين فواصل القرائن: كما في قول البديع الهمذاني:
أنا لقرب دار مولاي............. ** كما طرب النشوان مالت به الخمر

ومن الارتياح إلى لقائه.......... ** كما انتفض العصفور بلله القطر

ومن الامتزاج بولائه.......... ** كما التقت الصهباء والبارد العذب

ومن الابتهاج بمزاره......... ** كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب

إلى غير ذلك من فنون الامتزاج التي يزاوج فيها بين المنثور والمنظوم، وينتهي فيها الكاتب إلى ما يبلغ به القدر المحتوم.
أما تضمين بعض أبيات العرب في بعض قصائد المحدثين كما فعل القاضي الأرجاني في قوله من قصيدة مدح بها بعض الوزراء:
وأهد إلى الوزير المدجح يجمل ** لك المرباع منها والصفايا

ورافق رفقة رحلوا إليه ** فآبوا بالنهاب وبالسبايا

وقل للراحلين إلى ذراه ** ألستم خير من ركب المطايا

ولا تسلك سوى طرقي فإني ** أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

فإن ذلك من وظيفة الشاعر لا الكاتب، وإن كان الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله قد أشار في كتابه حسن التوسل إلى التمثيل بذلك لما نحن بصدده.
الحالة الثالثة: الحل:
وهو أن يعمد الكاتب إلى الأبيات من الشعر ذوات المعاني فيحلها من عقل الشعر، ويسبكها في كلامه المنثور، فإن الشعر هو المادة الثالثة للكتابة بعد القرآن الكريم والأخبار النبوية، على قائلها أفضل الصلاة والسلام، وخصوصاً أشعار العرب فإنها ديوان أدبهم، ومستودع حكمهم، وأنفس علومهم في الجاهلية؛ به يفتخرون، وإليه يحتكمون. فإذا أكثر من حفظ الشعر وفهم معانيه، غزرت لديه المواد، وترادفت عليه المعاني، وتواردت على فكره، فيسهل عليه حينئذ حلها، ووضعها في مكانها اللائق بها بحسب مقتضيات الكتابة. قال صاحب الريحان والريعان: وهو شأن حذاق الكتاب في زماننا، وفيه من الجمال فنون: منها أنه يدل على حفالة أدب المجيد، واتساع الحفظ، والتيسير والتأتي لسبك اللفظ.
ومنها أنه ليس يشهر منها إلا النادر للغاية في الحسن، فهي إذا حلت يحاورها المنشئ بما يناسب حسنها في البراعة، وهذا كثير في هذه الصناعة. قال في المثل السائر: وإنما جعل المنظوم مادة للمنشور بخلاف العكس لأن الأشعار أكثر، والمعاني فيها أغزر، قال: وسبب ذلك أن العرب الذين هم أهل الفصاحة كان جل كلامهم شعراً، ولا يوجد الكلام المنثور في كلامهم إلا يسيراً، ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم بل المنقول عنهم الشعر فأودعوا أشعارهم يسيراً، ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم بل المنقول عنهم الشعر فأودعوا أشعارهم كل المعاني كما قال الله تعالى: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون}. ثم جاء الطراز الأول من المخضرمين فلم يكن لهم إلا الشعر. ثم استمر الحال على ذلك فكان الشعر هو الأكثر، والكلام المنثور بالنسبة إليه قطرة من بحر، فلذلك صارت المعاني كلها مودعة في الأشعار. قال في حسن التوسل: والحل باب متسع على المجيد مجاله، وتتصرف في كلام العارف به رويته وارتجاله.
قال صاحب الريحان والريعان: وأول من فك رقاب الشعر، وسرح مقيده إلى النثر، عبد الحميد الأكبر: كاتب بني أمية إلى انقضاء خلافتهم. قال: وربما رامه غير المطبوع المتصرف فعقده وأفسده كما قال القائل: وبعضهم يحل فيعقد. قال: وكيفية الحل أن يتوخى هذا البيت المنظوم وحل فرائده من سلكه ثم ترتيب تلك الفرائد وما شابهها ترتيب متمكن لم يحظره الوزن ولا اضطرته القافية، ويبرزها في أحسن سلك، وأجمل قالب وأصح سبك، ويكملها بما يناسبها من أنواع البديع إذا أمكن ذلك من غير كلفة، ويتخير لها القرائن. وإذا تم معه المعنى المحلول في قرينة واحدة فيفرض له من حاصل فكره، أو من ذخيرة حفظه، ما يناسبه. وله أن ينقل المعنى إذا لم يفسده إلى ما شاء؛ فإن كان نسيباً وتأتى له أن يجعله مديحاً فليفعل؛ وكذلك غيره من الأنواع. وإذا أراد الحل بالمعنى فلتكن ألفاظه مناسبة لألفاظ البيت المحلول غير قاصرة عنها، فمتى قصرت ولو بلفظة واحدة، فسد ذلك الحل وعد معيباً. وإذا حل اللفظ فلا يتصرف بتقديم وتأخير ولا تبديل، إلا مع مراعاة تدبير الفصاحة، واجتناب ما ينقص المعنى أو يحط رتبته.
قال: وهذا الباب لا تنحصر المقاصد فيه، ولا حجر على المتصرف فيه.
ثم حل الأبيات الشعرية واستعمالها في النثر على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: أن يأخذ الناثر البيت من الشعر فينثره بلفظه وهو أدنى مراتب الحل:
قال في المثل السائر: وهو عيب فاحش، إذا لم يزد في نثره على أنه أزال رونق الوزن وطلاوة النظم لا غير. قال ومثله كمن أخذ عقداً قد أتقن نظمه، وأحسن تأليفه، فأوهاه وبدده؛ وكان يقوم عذره في ذلك لو نقله عن كونه عقداً إلى صورة أخرى مثله أو أحسن منه. وأيضاً فإنه إذا نثر الشعر بلفظه كان صاحبه مشهور السرقة فيقال هذا شعر فلان بعينه لكون ألفاظه باقية لم يتغير منها شيء.
وبالجملة فحل الشعر بلفظه لا يخرج عن حالين: الحال الأول: أن يكون الشعر مما يمكن حله بتقديم بعض ألفاظه وتأخير بعضها، وله في حله طريقان: الطريق الأول: أن يحله بالتقديم والتأخير من غير زيادة في لفظه: كما ذكر صاح بالصناعتين عن بعض الكتاب أنه حل قول البحتري:
أطل جفوة الدنيا وتهوين شأنها ** فما الغافل المغرور فيها بعاقل

يرجي الخلود معشر ضل سعيهم ** ودون الذي يرجون غول الغوائل

إذا ما حريز القوم بات وماله ** من الله واق فهو بادي المقاتل

فقال في نثرها: أطل تهونين شأن الدنيا وجفوتها، فما المغرور الغافل فيها بعاقل. ويرجو معشر ضل سعيهم الخلود، وغول الغوائل دون ما يرجون. وإذا بات حريز القوم وماله من الله واق فهو بادي المقاتل. فلم يزد في ألفاظها شيئاً.
الطريق الثاني: أن يحله بزيادة على لفظه كما حكى الجاحظ عن قليب المعتزلي أنه سمع منشداً ينشد للعتبي:
أفلت بطالته وراجعه ** حلم وأعقبه الهوى ندما

ألقى عليه الدهر كلكله ** وأعاره الإقتار والعدما

فإذا ألم به أخو ثقة ** غض الجفون ومجمج الكلما

فنثرها فقال يستعطف بعض الملوك على رجل من أهله: جعلني الله فداك ليس هو اليوم كما كان، إنه وحياتك أفلت بطالته، إي والله وراجعه حلمه، وأعقبه وحقك الهوى ندماً. أحنى الدهر عليه والله بكلكله، فهو اليوم إذا رأى أخا ثقة غض بصره ومجمج كلامه. فزاد في نثره ألفاظاً على ألفاظ الشعر.
ونحو ذلك ما حكاه ضياء الدين بن الأثير عن بعض العراقيين أنه نثر قول بعض شعراء الحماسة:
وألد ذي حنق علي كأنما ** تغلي عداوة صدره في مرجل

أرجيته عني فأبصر قصده ** وكويته فوق النواظر من عل

فقال في نثره: فكم لقي ألد ذا حنق كأنه ينظر إلى الكواكب من عل وتغلي عداوة صدره في مرجل، فكواه فوق ناظريه، وأكبه لفمه ويديه.
الحال الثاني: أن يكون الشعر مما لا يمكن حله بتقديم بعض ألفاظه وتأخير بعضها، فيحتاج في نثره إلى الزيادة فيه، والنقص منه، وتغيير بعض ألفاظه حتى يستقيم كقول الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

فإن المصراع الثاني من البيت لا يمكن حله بالتقديم والتأخير لأنك تقول في المصراع الأول: فؤاد الفتى نصف ولسانه نصف ولا يمكن ذلك في المصراع الثاني حتى تزيد فيه أو تنقص منه فتقول مثلاً: فؤاد الفتى نصف ولسانه نصف على ما تقدم. ثم تقول وصورته من اللحم والدم فضلة لا غناء بها دونهما، ولا معول عليها إلا معهما.
قال في الصناعتين: وزيادة الألفاظ التي تحصل فيه ليست بضائرة لأن بسط الألفاظ في أنواع المنثور شائع؛ ألا ترى أنها تحتاج إلى الازدواج، ومن الازدواج ما يكون بتكرير كلمتين لهما معنى واجد وليس ذلك بقبيح، إلا إذا اتفق لفظاهما؛ إلا أن أكثر ما يحسن فيه إيراد المعنى على غاية ما يمكن من الإيجاز، ومعنى قوله فلم يبق إلا صورة اللحم والدم، داخل في قوله لسان الفتى نصف ونصف فؤاده. والمصراع الثاني تذييل للمصراع الأول. قال: فإذا أردت أن تحله حلاً مقتصراً بغير لفظه، قلت الإنسان شطران: لسان وجنان؛ وقريب من ذلك قول أبي نواس:
ألا يا بان الذين فنوا وبادوا ** أما والله ما ذهبوا لتبقى

فإن المصراع الأول يمكن حله بأن تقول: ألا يا ابن الذين بادوا وفنوا فيكون مستقيماً. أما المصراع الثاني فإنه إن قدم فيه أو أخر بأن قيل: ما ذهبوا لتبقى أما والله فإنه لا يستقيم، فتحتاج في نثره إلى تغيير وزيادة فتقول: ألا يا ابن الذين ماتوا ومضوا وظعنوا ونأوا أما والله ما ظعنوا لتقيم، ولا راموا لتريم، ولا موتوا لتحيا، ولا فنوا لتبقى. قال في الصناعتين: وفي هذه الألفاظ طول وليس بضائر على ما تقدم. قال: وإن أردت اختصاره قلت أما والله إن الموت لم يصبك في أبيك إلا ليصيبك فيك.
الضرب الثاني وهو أعلى من الضرب الأول أن ينثر المنظوم ببعض ألفاظ ويغرم عن البعض ألفاظاً أخر: ويحسن ذلك في حالين الحال الأول: أن يكون في الشعر ألفاظ لا يقوم غيرها من الألفاظ مقامها بأن تكون مثلاً سائراً أو جارية مجرى المثل: كقول بعض شعراء الحماسة:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

فإن لفظ بني اللقيطة لا يقوم غيره من الألفاظ مقامه لكونه علماً على قوم مخصوصين فيحتاج الناثر أن يبقيه بلفظه، كما فعل ضياء الدين بن الأثير في قوله في نثر البيت المذكرو: لست ممن تستبيح إبله بنو اللقيطة، ولا الذي إذا هم بأمر كانت الآمال إليه وسيطة؛ ولكني أحمي الهمل، وأفوت الأمل، وأقول سبق السيف العذل. وكذلك كل ما جرى هذا المجرى ونحوه.
الحال الثاني: أن يكون في البيت لفظ رائق، قد أخذ من الفصاحة بزمامها، وأحاط من البلاغة بجوانبها، فيبقيه على حاله، ويقرنه بلفظ يماثله ويوازنه، قال في المثل السائر: وهناك تظهر الصنعة في المماثلة والمشاكلة، ومؤاخاة الألفاظ الباقية بالألفاظ المرتجلة، فإنه إذا أخذ لفظاً لشاعر مجيد، قد نقحه وصححه، فقرنه بما لا يلائمه كان كمن جمع بين لؤلؤة وحصاة؛ ولا خفاء بما في ذلك من الانتصاب للقدح، والاستهداف للطعن. قال: وهو عندي أصعب منالاً من نثر الشعر بغير لفظه؛ لأنه يسلك مضيقاً لما فيه من التعرض لمماثلة ما هو في غاية الحسن والجودة. بخلاف نثر الشعر بغير لفظه فإن ناثره يتصرف فيه على حسب ما يراه، ولا يكون مقيداً فيه بمثال يضطر إلى مؤاخاته؛ ومثل لذلك بقول أبي تمام في وصف قصيدة له:
حذاء تملأ كل أذن حكمة ** وبلاغة وتدر كل وريد

ثم قال: فقوله تملأ كل أذن حكمة من الكلام الحسن، وهو أحسن ما في البيت وأشهر، فلو قال قائل لمن هذا؟ قيل وهل يخفى القمر، وإذا عرف الكلام صارت المعرفة له علامة، ولم يخش عليه سرقة إذ لو سرق لدلت عليه الوسامة، ومن خصائص صفاته أنه يملأ كل أذن حكمة، ويجعل فصاحة كل لسان عجمة. فبقي لفظ تملأ كل أذن حكمة وأتى معها بما يناسبها من الألفاظ الحسنة الرائقة. ونحو ذلك ما ذكره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: أنه يؤاخي القرينة المحلولة بمثلها من عنده كما فعل هو في تقليد من التقاليد فقال: فكم مل ضوء الصبح مما يغيره، ثم قال: وظلام النقع مما يثيره. وقال أيضاً: وفل حديد الهند مما يلاطمه، ثم قال: والأجل مما يسابقه إلى قبض النفوس ويزاحمه. والقرينتان الأولتان نصفا بيتين للمتنبي، فأضاف إلى كل قرينة ما يناسبها. قال وهذا من أكثر ما يستعمل في الكتابة.
الضرب الثالث وهو أعلى من الضربين الأولين أن يأخذ المعنى فيكسوه ألفاظاً من عنده ويصوغه بألفاظ غير ألفاظه:
قال في المثل السائر: وثم يتبين حذق الصائغ في صياغته؛ فإن استطاع الزيادة على المعنى فتلك الدرجة العالية، وإلا أحسن التصرف وأتقن التأليف؛ ليكون أولى بذلك المعنى من صاحبه الأول.
ولتعلم أن الأبيات الشعرية في حلها بالمعنى لها حالان: الحال الأول: أن يكون البيت الشعر مما يتسع المجال لناثره في نثره فيورده بضروب من العبارات. قال ابن الأثير: وذلك عندي شبيه بالمسائل السيالة في الحساب التي يجاب عنها بعدة من الأجوبة. فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي:
لا تعذل المشتاق في أشواقه ** حتى تكون حشاك في أحشائه

فهذا البيت يتصرف في نثره في وجوه من المعاني. وقد نثر ابن الأثير هذا البيت فقال: لا تعذل المحب فيما يهواه، حتى تطوي القلب على ما طواه. ونثره على وجه آخر فقال: إذا اختلفت العينان في النظر، فالعدل ضرب من الهذر. وكذلك قول المتنبي أيضاً:
إن القتيل مضرجاً بدموعه ** مثل القتيل مضرجاً بدمائه

نثره ابن الأثير فقال: القتيل بسيف العيون، كالقتيل بسيف المنون؛ غير أن ذلك لا يجرد من غمده، ولا يقاد صاحبه بعمده. فزاد على المعنى الذي تضمنه البيت عدم القود بالعمد. ونثره على وجه آخر فقال: دم المحب ودم القتيل، متفقان في التشبيه والتمثيل؛ ولا تجد بينهما بوناً، سوى أنهما يختلفان لوناً. قال وهذا أحسن من الأول.
وعلى هذا النهج يجري قول ابن الرومي في وصف الحديث:
وحديثها السحر الحلال لو أنه ** لم يجن قتل المسلم المتحرز

نثره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في وصف السيوف فقال: وكفى السيوف فخراً أنها للجنة ظلال، والى النصر مآل؛ وإذا كان من بيان الحديث سحر، فإن بيان حديثها عمن كلمته هو السح الحلال. ثم نقله إلى وصف الأسنة فقال: حسب ألسنة الأسنة شرفاً أن كشف خبايا القلوب يذم إلا منها، وأن بث أسرار الضمائر تكره روايته إلا عنها، فمكرر حديثها في ذلك لا يفضي إلى ملال، وإذا لم يكن حسن حديثها الذي يسحر الألباب مما يحل، فليس في الحديث سحر حلال. ثم نقله إلى وصف البلاغة فقال: البلاغة تسحر الألباب حتى تحيل العرض جوهراً وتحيل الهواء المدرك بالسمع لانسجامه وعذوبته في الذوق نهراً؛ لكنه سحر لم يجن قتل المسلم المتحرز، فيتأول في حله، وإذا كان في الحديث ما هو عقلة للمستوفز، فهذا أنشوطة نشاط البليغ وحل تقال عقله. ونقله إلى وصف الكتابة، فقال: خطه شرك العقول، وفتنة تشغل المطمئن بملاحة المرئي المكتوب، عن فصاحة المسموع المقول، ولو لم يكن البيان سحراً، لما تجسدت منه في طرسه هذه الدرر، ولو لم يكن بعض السحر حلالاً، لما انجلى ظلام النفس عما يهتدى به من هذه الأوضاح والغرر.
الحال الثاني: أن يكون البيت الشعر مما يضيق المجال فيه فيعسر على الناثر تبديل ألفاظه: وذلك قليل بالنسبة إلى ما يتسع في حله المجال. قال في المثل السائر: وسببه أن المعنى ينحصر في مقصد من المقاصد حتى لا يكاد يأتي إلا فذاً. فمن ذلك قول أبي تمام الطائي من قصيدة:
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ** بها الليل إلا وهي من سندس خضر

فإن أبا تمام قصد المؤاخاة في ذكر لوني الثياب بين الأحمر والأخضر، وجاء ذلك واقعاً على المعنى الذي أراده: من لون ثياب القتلى ثياب الجنة، فإن ثياب القتلى حمر وثياب الجنة خضر.
قال ابن الأثير: فإذا فك نظم هذا البيت وأريد صوغه بغير لفظه لمن يمكن؛ فيجب على الناثر أن يحسن الصنعة في فك نظامه؛ لأنه يتصدى لنثره بألفاظه، فإن كان عنده قوة تصرف، وبسطة عبارة، فإنه يأتي به حسناً رائقاً. وقد نثر هذا البيت فقال: لم تكسه المنايا نسج شفارها، حتى كسته الجنة وقد نثر هذا البيت فقال: لم تكسه المنايا نسج شفارها، حتى كسته الجنة نسج شعارها: فبدل أحمر ثوبه بأخضره، وكأس جمامه بكأس كوثره. قال: وهذا من الحسن على غاية يكون كمجد حسودها، من جملة شهودها. ومن ذلك قول أبي الطيب:
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ** ونم جثث القتلى عليها تمائم

فإن أبا الطيب بني بيته على واقعة مخصوصة. وذلك أن حصناً من حصون سيف الدولة قصده الروم، وانتزعوه، وخربوه؛ فنهد سيف الدولة إليه واسترجعه، وجدد بناءهن وهزم الروم، ونصب جملة من جثث القتلى على السور، فنظم أبو الطيب في هذا قصيداً أوله:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم

ولما انتهى إلى ذكر الحصن، جاء بهذا البيت في جملة أبيات، فشرح صورة الحال، في ارتجاع الحصن بالقتال وتعليق القتلى عليه، وأبرز ذلك في معنى التمثيل بالجنون والتمائم. وهذا لا يمكن تبديل لفظه؛ فيجب على الناثر حسن الصنعة في حله ونثره. وقد نثره ابن الأثير أيضاً فقال: سرى إلى حصن كذا مستعيداً منه سبية نزعها العدو اختلاساً، وأخذها مخادعة لا افتراساً؛ فما نزلها حتى استقادها ولا نازلها حتى استعادها؛ فكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم، وعلق عليها من رؤوس القتلى تمائم؛ ثم قال: وفي هذا من الحسن مالا خفاء فيه، فمن شاء أن ينثر شعراً فلينثر هكذا وإلا فليترك. ثم نقله إلى معنى آخر، وأبرزه في صورة أخرى فأضاف إليه البيت الذي قبله من القصيدة فصار على هذه الصورة:
بناها فأعلى والقنا تقرع القنا ** وموج المنايا حولها متلاطم

وكان بها مثل الجنون فأصبحت ** ومن جثث القتلى عليها تمائم

ثم نثرهما فقال: بناها والأسنة في بنائها متخاصمة، وأمواج المنايا فوق أيدي البانين متلاطمة؛ وما أجلت الحرب عنها حتى زلزلت أقطارها بركض الجياد، وأصيبت بمثل الجنون فعلقت عليا تمائم من الرؤوس والأجساد. ولا شك أن الحرب تعرد عمن عز جانبه، وتقول ألا هكذا فليكسب المجد كاسبه. قال وهذا أحسن من الأول وأتم معنى. ثم تصرف فيه بزيادة على هذا المعنى فقال: بناها، ودون ذاك البناء شوك الأسل، وطوفان المنايا الذي لا يقال وكأنما أصيبت بجنون فعلقت القتلى عليها مكان التمائم، أو شينت بعطل فعلقت مكان الأطواق. قال وهذا الفصل فيه زيادة على الفصل الذي قبله.
قلت: وكما ينبغي الإكثار من حفظ الأشعار على ما تقدم ليوردها في خلال كلامه استشهاداً وتضميناً أو يحلها ويقتبس معانيها في نثره على ما تقدم بيانه كذلك ينبغي له معرفة المشاهير من الشعراء الطائري السمعة: من شعراء الجاهلية كامرئ القيس بن حجر، والنابغة الذبياني، وطرفة بن العبد، وأوس بن حجر، وزهير بن أبي سلمى، والأفوه الأودي، والمتلمس، والأعشى، وعلقمة بن عبدة، وعمرو بن كلثوم، والمرقش، والنمر بن تولب ومهلهل، وطفيل الغنوي، وعروة بن الورد، وقيس بن الخطيم، والشماخ بن ضرار، وعنترة، والسموأل بن عاديا، ومن جرى مجراهم.
ومن المخضرمين، وهم الذي أدركوا الجاهلية والإسلام جميعاً: كحسان بن ثابت رضي الله عنه، ولبيد بن أبي ربيعة، وكعب بن زهير، وزيد الخيل الطائي، والنابغة الجعدي، وأمية بن أبي الصلت، والحطيئة، وعمرو بن معدي كرب، والزبرقان بن بدر التميمي، والعباس بن مرداس السلمي، والخنساء بنت عمرو بن الشريد، ومن في معناهم.
ومن المولدين، وهم الذين ولدوا من العرب في الإسلام: كالفرزدق، وجرير والأخطل، والقطامي، والكميت بن زيد الأسدي، والمساور بن هند، وعدي بن الرقاع، وكثر عزة، وعمر بن أبي ربيعة، والراعي، وابن مقبل، وابن مفرغ، وليلى الأخيلية، ومن انخرط في سلكهم.
ومن المحدثين، وهم الذين أتوا بعد المولدين: كإبراهيم بن هرمة؛ وابن أذينة، وأبي نواس، وأبي العتاهية، طفيل الكناني وسلم الخاسر وابن ميادة، وصالح بن عبد القدوس، وأبي عيينة، والعباس بن الأحنف، والعتابي، وأشجع السلمي، والعكوك، وابن أبي زرعة الدمشقي، وأبي الشيصن والحمدوني، والعتبي، ودعبل الخزاعي، وإسحاق بن إبراهيم الموصلي، وإبراهيم بن إسحاق الموصلي، وأبي علي البصير، وأبي تمام الطائي، وأبي عبادة البحتري، وأبي الطيب المتنبي، وابن بسام، والسري الموصلي، وأبي الفتح كشاجم، وأبي الفتح العبسي، وأبي الفرج الببغا، وابن الساعاتي، وابن قلاقس، والوأواء الدمشقي، والعفيف التلمساني، وابنه، وابن سنا الملك، وابن شمس الخلافة، وابن النبيه، والصفي الحلي ونحوهم.
ومعرفة الفرسان منهم: كامرئ القيس، وخفاف بن ندبة، والزبرقان بن بدر وعنترة، وعمرو بن معدي كرب، ودريد بن الصمة.
ومن كان منهم راجلاً يسعى على رجليه: كسليك بن السلكة، وابن براقة، وتأبط شراً والشنفري وغيرهم.
ومن تقدم منهم في نوع من الشعر، كمعرفة طفيل الغنوي بوصف الخيل، وأمية بن أبي الصلت في أمر الآخرة وذكر الحرب، وعمر بن أبي ربيعة في وصف النساء، وعتيبة بن مرادس بمراكب الإبل، وكثير في الأمثال، والفرزدق في الأخبار، وجرير في المعاني.
ومعرفة من هو أكثرهم حفظاً: الأغلب الشاعر: قيل إنه كان يحفظ أربع عشرة ألف أرجوزة، ومعرفة أي القبائل كانت الشعراء فيها أكثر: كهذيل؛ فقد قيل إنه كان فيها أربعون شاعراً مفلقاً كلهم يعدو على رجليه، ليس فيهم فارس، وأي قبيلة كان الشعر فيها أقل: كشيبان، وكلب؛ فقد قيل إنه ليس في الدنيا قبيلة أقل شعراء منهما وإنه ليس لكلب في الجاهلية شاعر قديم على أنها مثل شيبان أربع مرات.
وقد ذكر ابن رشيق في عمدته عن عبد اله بن سلام الجمحي وغيره: أن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة فكان منهم مهلهل بن ربيعة، وهو خال امرئ القيس بن حجر، ويقال إنه أول من قصد القصائد، والمرقشان الأكبر والأصغر، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس، والأعشى، والمسيب بن علس وغيرهم؛ ثم تحول الشعر إلى قيس فكان منهم النابغتان الذبياني والجعدي، وزهير بن أبي سلمى، وابنه كعب، ولبيد، والحطيئة، والشماخ. ثم استقر الشعر في تميم فكان منهم أوس بن حجر، ولم يتقدمه أحد حتى كان النابغة وزهير فأخملاه.
قلت: والمراد أن الشعر غلب في هذه القبائل وظهر فيها، وكان فيها الشعراء المجيدون؛ وإلا فالشعر موجود في قبائل العرب قبل ذلك: كحمير وكهلان من اليمن؛ بل في عاد وثمود على ما تشهد به كتب السير والأخبار. فإذا عرف الكاتب ذلك، استعان به في المساواة بمن شاء منهم في التقريظات والتفضيل عليه كما كتبت في تقريظ شاعر: فامرؤ القيس يغرق في مقياس معانيه، والنابغة الذبياني يقصر عن أن يبلغ مدى شأوه أو يدانيه، وزهير يقتطف زهرات البلاغة من أفانينه، وأوس بن حجر ينسج على منواله ويأتم بقوانينه، وطفيل الغنوي يتطفل على موائد شعره، وطرفة بن العبد يقصر عنه في شيوع ذكره، والأعشى يعشو إلى ضوء ناره، وعمرو بن كلثوم يسعى إلى بابه ويقف بفناء داره، وكثير في أمثاله لا يعد من أمثاله، وجرير في مفاخره يتمسك من الفخار بأذياله، والفرزدق في أوصافه يقلبه ما بين يمينه وشماله؛ فلو رآه عبد الملك بن مروان لاختاره على الأخطل، أو اجتمع مع أبي نواس لدى الأمين لقال هذه هو المقدم الأفضل، أو أدركه أبو تمام، لاعترف له بالتمام، وأو بصر به أبو عبادة لقال أنا له عبد وغلام، أو عاصره المتنبي لاعترف بفضله، أو ابن الساعاتي لقال لا يأتي الزمان دون قيام الساعة بمثله. ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى.
وكذلك ينبغي أن يعرف مصطلح أهل العروض الذي هو ميزان الشعر مثل الوتد، والسبب، والفاصلة، والعروض، والضرب؛ وأسماء البحور: من الطويل، والمديد، والبسيط، وأخواتها؛ وألقاب الزحاف: كالخبن، والخبل، والقبض وغيرها: ليدخلها تضاعيف كلامه عند احتياجه إلى ذلك كما قال صاحبنا الشيخ زين الدين شعبان الآثاري في أول ألفيته في العروض:
الحمد لله المليك الغافر ** ذي الطول والفضل المديد الوافر

سبحانه ماذا يقول البارع ** في كامل ليس له مضارع

ورزقه في عدله بسيط ** وعلمه بخلقه محيط

وما ينخرط في هذا السلك من الكلام المنثور أيضاً.